النهار – 5 كانون الاول 1997 نزيه خاطر في غياب الحب والموت " لميشال جبر" إمرأة لسانها صُوَر وجسدها مفردات لا تنتهي
في القاعة الصغرى (60مقعدا) في مسرح مونو،شارع اليسوعية، ممثلان في صدام يبدو لا رجعة فيه.أي مقفل على نزاع يتغذّى من فشله.أي صدام دائر بقساوة خام، وشراسة فجة، وكما يقال السكين على العظم. وكأن لا رحمة فيه لأي من المرأة المعلقة على حب يغدر بها كقدر مشوّه، او من الرجل المشدود الى علاقة يزاولها ويهرب منها كأنها تشده بتواطؤ منه الى اوضاع كالمصائد. نينا وجرجي ولا أحد من الرجل، الممثل جرجي، أو من المرأة، الممثلة نينا، لا يضطهد الآخر. وكل منهما يفعل ما لا يفعل للوصول الى مراده، أي اقتناص الآخر. وكل منهما صياد، وكل منهما يرى نفسه ضحية. ونينا الضحية بامتياز. وكأنها تمضي وقتها، ويجب القول حياتها، انها تمضي حياتها، بل كل يوم من صباحه الى آخر ليله، في مطاردة جرجي. مطاردته مناورة، ورباً، كأنها على طريقه بالصدفة، وفي حيالته بالمجانية، التي تعطي دون مردود وتأخذ للمتعة. فيما هي منتصبة، منصوبة كشرك، ومقتنصة مستهلكة كجسد على شوق، أي كما يقال كخبز على نار. صيادة في زي ضحية. غير انها في شكل ما هي ضحية وتستمتع باداء دور الضحية. وكأنها تمضي ايامها في ابتكار الحكايات عن بشاعة جرجي، عن جبنه وقذارته وحقارته، عن صنعه منها، وقد عرفها فتاة كالحمامة البيضاء أمرأة على حافة العهر ان لم يصنع منها عاهرة، تحكي وتشرب. تثرثر وتغني وتشرب. تصرخ وتبكي وتروي وتشرب. ولا حديث عندها سوى عن جرجي.والاخبار، أخبار جرجي، نينا ترويها وآلة تلفونها مفتوحة. ترويها لصديقها التي كما نفهم من الكلام، مهددة بالموت تسمما لأكلها كمية من الفطر غير البريء. ترويها والباب يدقه زائر، يدقه ببطء اولا ، ومع استمرار نينا في سرد حكايتها، يفعل على نحو اسرع.الى أن يدخل في الحديث معها ويجذبها قليلا قليلا كمن يروضها، الى أن تفتح له الباب. وكانت قد ظنت انه " البادي غارد الفرنسي" الذي راقصها قبل ساعات عندما ذهبت لتفخخ جرجي، فاذا به جرجي شخصيا، جرجي دائما، جرجي الذي كانت ربما تنتظر قدومه. جرجي الذي كان سمع كلام نينا على التلفون الى صديقتها عن " البادي غارد" وحذائه الضخم وقامته الضخمة، فانتحل شخصيته ليقنعها بأن تفتح له باب شقتها.ليقنعها بذلك بفضل ادائه الناجح لشخصية " البادي غارد" وكيف لا وهو الممثل الناجح، أو هكذا جرجي يرى نفسه، فيما تصفه نينا، وهي كذلك ممثلة، وممثلة عمل جرجي على تفشيلها دوما، تصفه بالممثل الفاشل، " كان رح يصير طبيب فاشل لو ما صار ممثل فاشل"- تقول نينا. ( من مقالة نزيه خاطر النهار 5 كانون الاول 1997) نينا مستنفرة يدخل جرجي ضاحكا، مقهقها حتى وقوعه على الارض من فرط فرحه بنجاح " مقلوبه"، خدعته، بنجاخه في ايهام نينا بأنه "البادي غارد"الفرنسي الغليظ المزاج. يدخل ومع دخوله تتبدل الاشياء. لم يبعد جرجي إخبارا وحكايات على لسان نينا ولكنه اصبح رجلا واقفا امام امرأة مستنفرة وعلى خراشيمها. ومستعدة، وكأنها مستعدة من قبل، من بعيد لمثل هذه اللحظة.لمواجهة جرجي، جرجي الذي تبغض، تحتقر، تشتم، وباختصار الرجل الذي تحب.تحب بجنون، بهذيان، بفوران، بانزلاقها دائما الى كل اصناف الضعف، ضعف عاطفي، ضعف غرائزي، ضعف أخلاقي، ضعف إجتماعي.الى ما لا تقبله إمرأة أو تفعله ممثلة. ( من مقالة نزيه خاطر) ونينا إمرأة من لسانها الى قلبها الى رغباتها. إمرأة بتطرف كما هي وبالعنف عينها ممثلة بتطرف.وأي ممثلة متفجرة هي كارول سماحة في دور نينا! ممثلة بشغف، بالاداء الاقصى،بالوصول الى الاشياء حيث لا يبقى سوى أن تنكسر أو تنفجر، وكارول،أو نينا، أو نينا كارول، انثى بنساء، مختصر ملغوم للمرأة ان فقدت معنى الاشياء وحدودها. أي ان قطعت نقطة الصفر التي لا ميزان من بعدها. ولا أحد نينا لأكثر مما وصلت اليه كارول! وفي الجزء الاول من عرض ميشال جبر، أي في الجزء المونودرامي من مسرحية " هي في غياب الحب... والموت"، حيث نينا وحيدة تحكي بالعامية، بالدارجة، بالمحكية، وانما كذلك بلغات أخرى، بمفردات لا تحصى، تحكي غناءً واداءً وايماءً.ولسانها صور وجسدها مفردات لا تنتهي. ولا تسكت لحظة نينا وكأنها لا تعرف الصمت. أو كأنها تخشى مواجهة الصمت، صمتها. تخشى ان تجد نفسها للحظة مع نفسها، امام نفسها في عزلة عن نفسها، وكأنها لا تحيا سوى في حضور جرجي، وكأن جرجي نبضها، حيوتها، حياتها، أو كأنه أمر تحتاج اليه لتعرف أقاصي ذاتها.ويدخل جرجي وتستمر نينا في رحلتها الموحدة. فمع جرجي أو بدوم جرجي، نينا تبقى نينا، شغفاً وغرائز، شراسة وعدوانية، وأكولة نهمة لا ترحم إن قررت.ويقع جرجي في جوّ نينا كما يقع فأر في مصيّدة. تماما كما يقعجو قديح في اداء كارول سماحة. وليس المنزل وحده منزلها، وانما المنصة كذلك منصتها. والعرض عرضها.وكأنما العرض صنع خصيصا لابراز موهبة صدامية في عرض صمم خصيصا على قياسها، لابراز كارول سماحة دون مقاومة جو قديح لهذه المرأة التي قررت أن تدجينه نهائيا. وترويض جرجي ولجرجي أكثر من حركة صدّ بها عدوانية نينا، والركيزة حبها له. وكما يقال أن قوة جرجي من ضعف نينا أمامه. ولكنها ما عادة تريد لهذا الوضع ان يستمر. وقررت محاصرته في ذاته. في رخاوته، في ميوعته. في اتكاله على السهولة، على ضعف الآخرين، والنساء اولاً. على كونه ممثلا معروفا ومؤلفاً متداولاً. على ما عنده وما تظن نينا انه سرق منها. ولا تترك نينا سلاحا لا تستعمله لترويض هذا الرجل الجبان في لحظة اراداتها لحظة للحقائق. ومسدس في يدها وفطر قد يكون ساما في جسد جرجي. جرجي الذي كأنه سجين تحت رحمة نينا. جرجي المفخخ، جرجي الفأر، جرجي المحاصر من ذاته، وإنما اولاً المحاصر من حب نينا له، حب كاد يقضي عليه، ولكنه ينقذه لحظة يكاد ينتهي كل شيء. وتقع نينا بين يديه، ويحملها الى فوق حيث الجزء الحميم من الشقة، شقة نينا. يحملها لا أكثر، وكأن كل شيء عاد الى نقطة صفر جديدة غير محددة. ومن غير المهم ان يكون لقصة نينا وجرجي وعالمهما المشوش، فأيهما الصحيح عالم نينا او عالم جرجي، ومن منهما يحكي الصدق ومن منهما يمثل، من غبر المهم تن يكون لقصتهما نهاية روائية. وكل ما رايناه وهم. جزء من واقع لا بداية له او نهاية. شيء يشبه المحطة. مجرد استراحة بين مواجهتين قد تنتصر هنا نينا وقد ينتصر جرجي في ما بعد هناك. ويترك ميشال جبرالباب مفتوحا على تأويل لا يخلو من انجذاب الى شخصية نينا التي تحمل من الاغراءات الدرامية ما يشد مخرجا للعمل عليها بجدية. وركيزة العرض نينا، أي كارول سماحة التي ترك لها المخرج المنصة نفعل يها تخصيبا الى رتبة الهذيان التعبيري. ووسط ذلك تطل كارول سماحة ذكية، متماسكة، متساوية، وعلى شفير انكسار يهدد باستمرار الحضور المضغوط والمكثف والمختمر لمنصة ما وجدت الا بالممثلين يتربعان عليها. ولعب ضيق المكان ليضاعف من الشحنة التعبيرية للاداء. وساد مناخ حميم جعل ما في القاعة جزءا لصيقا بناس المنصة. مما أفقد الديكور هناك أثره في الذين هنا في الذين هنا. وكان ان دار صراع بين نينا وجرجي كأنه بيننا أو كأننا من أهل البيت. وكأن ميشال جبر قرر ان يحصر نجاحه في نجاح ممثليه، كارول سماحة وجو قديح، وهو فعل. نزيه خاطر
